فصل: تفسير الآية رقم (37)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

الفاء لتفريع الإخبار بحصول الاختلاف على الإخبار بأن هذا صراط مستقيم، أي حادَ عن الصراط المستقيم الأحزابُ فاختلفوا بينهم في الطرائق التي سلكوها، أي هذا صراط مستقيم لا يختلف سالكوه اختلافاً أصلياً، فسلك الأحزاب طرقاً أخرى هي حائدة عن الصراط المستقيم فلم يتفقوا على شيء‏.‏

وقوله ‏{‏مِن بينهم‏}‏ متعلّق باخْتَلَفَ‏.‏ و‏(‏من‏)‏ حرف توكيد، أي اختلفوا بينهم‏.‏

والمراد بالأحزاب أحزاب النصارى، لأن الاختلاف مؤذن بأنهم كانوا متفقين ولم يكن اليهود موافقين النصارى في شيء من الدين‏.‏ وقد كان النصارى على قول واحد على التّوحيد في حياة الحواريين ثم حدث الاختلاف في تلاميذهم‏.‏ وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة‏}‏ في سورة النساء ‏(‏171‏)‏ أن الاختلاف انحلّ إلى ثلاثة مذاهب‏:‏ المَلْكَانِيّة ‏(‏وتسمى الجاثُلِيقيّة‏)‏؛ واليعقوبية، والنسطورية‏.‏ وانشعبت من هذه الفرق عدّة فِرق ذكرها الشهرستاني، ومنها الاليانة، والبليارسية، والمقدانوسية، والسبالية، والبوطينوسية، والبولية، إلى فرق أخرى‏.‏ منها فرقة كانت في العرب تسمى الرّكوسية ورد ذكرها في الحديث‏:‏ أن النبي قال لعدي بن حاتم‏:‏ إنّك رَكُوسي‏.‏ قال أهل اللغة هي نصرانية مشوبة بعقائد الصابئة‏.‏ وحدثت بعد ذلك فرقة الاعتراضية ‏(‏البُرُوتِسْتان‏)‏ أتباع ‏(‏لوثير‏)‏‏.‏ وأشهر الفرق اليوم هي الملكانية ‏(‏كاثوليك‏)‏، واليعقوبية ‏(‏أرثودوكس‏)‏، والاعتراضية ‏(‏بُرُوتستان‏)‏‏.‏ ولما كان اختلافهم قد انحصر في مرجع واحد يرجع إلى إلهية عيسى اغتراراً وسوءَ فهم في معنى لفظ ‏(‏ابن‏)‏ الذي ورد صفة للمسيح في الأناجيل مع أنه قد وصف بذلك فيها أيضاً أصحابه‏.‏ وقد جاء في التوراة أيضاً أنتم أبناء الله‏.‏ وفي إنجيل متي الحواري وإنجيل يوحنا الحواري كلمات صريحة في أن المسيح ابن إنسان وأن الله إلههُ وربُّه، فقد انحصرت مذاهبهم في الكفر بالله فلذلك ذُيل بقوله فَوَيْلٌ للذين كَفَرُوا مِن مَشْهَدِ يوممٍ عَظِيمٍ‏}‏، فشمل قولُه ‏(‏الَّذِينَ كَفَرُوا‏)‏ هؤلاء المخبرَ عنهم من النصارى وشمل المشركين غيرهم‏.‏

والمشهد صالح لمعان، وهو أن يكون مشتقاً من المشاهدة أو من الشهود، ثمّ إما أن يكون مصدراً ميمياً في المعنيين أو اسم مكان لهما أو اسم زمان لهما، أي يوم فيه ذلك وغيره‏.‏

والويل حاصل لهم في الاحتمالات كلها وقد دخلوا في عموم الذين كفروا بالله، أي نفوا وحدانيته، فدخلوا في زمرة المشركين لا محالة، ولكنهم أهل كتاب دون المشركين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏أسمع بهم وأبصر‏}‏ صيغتا تعجب، وهو تعجب على لسان الرسول والمؤمنين، أو هو مستعمل في التعجيب، والمعنيان متقاربان، وهو مستعمل كناية أيضاً عن تهديدهم، فتعيّن أن التعجيب من بلوغ حالهم في السوء مبلغاً يتعجب من طاقتهم على مشاهدة مناظره وسماع مكارهه‏.‏ والمعنى؛ ما أسمعهم وما أبصرهم في ذلك اليوم، أي ما أقدرهم على السمع والبَصَر بما يكرهونه‏.‏ وقريب هو من معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما أصبرهم على النار‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 175‏]‏‏.‏

وجُوز أن يكون ‏{‏أسمع بهم وأبصر‏}‏ غير مستعمل في التعجب بل صادفَ أن جاء على صورة فعل التعجب، وإنما هو على أصل وضعه أمر للمخاطب غير المعيّن بأن يَسمع ويُبصر بسببهم، ومعمول السمع والبصر محذوف لقصد التعميم ليشمل كل ما يصح أن يُسمع وأن يُبصر‏.‏ وهذا كناية عن التهديد‏.‏

وضمير الغائبين عائد إلى ‏(‏الذين كفروا‏)‏، أي أعجب بحالهم يومئذ من نصارى وعبدة الأصنام‏.‏

والاستدراك الذي أفاده قوله ‏{‏لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين‏}‏ راجع إلى ما يفيده التقييد بالظرف في قوله ‏{‏يوم يأتوننا‏}‏ من ترقب سوء حالهم يوم القيامة الذي يقتضي الظن بأنهم الآن في سعة من الحال‏.‏ فأفيد أنهم متلبسون بالضلال المبين وهو من سوء الحال لهم لما يتبعه من اضطراب الرأي والتباس الحال على صاحبه‏.‏ وتلك نكتة التقييد بالظرف في قوله ‏{‏اليوم في ضلال مبين‏}‏‏.‏

والتعبير عنهم ب ‏{‏الظالمون‏}‏ إظهار في مقام الإضمار‏.‏ ونكتته التخلص إلى خصوص المشركين لأن اصطلاح القرآن إطلاق الظالمين على عبدة الأصنام وإطلاق الظلم على عبادة الأصنام، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

عقّب تحذيرهم من عذاب الآخرة والنداء على سوء ضلالهم في الدنيا بالأمر بإنذارهم استقصاء في الإعذار لهم‏.‏

والضمير عائد إلى الظالمين، وهم المشركون من أهل مكة وغيرهم من عبدة الأصنام لقوله ‏{‏وهم إ يؤمنون وقوله ‏{‏وإلينا يرجعون‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وانتصب ‏{‏يوم الحسرة على أنه مفعول خلَف عن المفعول الثاني لأنذرهم، لأنه بمعنى أنذرهم عذاب يوم الحسرة‏.‏

والحسرة‏:‏ الندامة الشديدة الداعية إلى التلهف‏.‏ والمراد بيوم الحسرة يوم الحساب، أضيف اليوم إلى الحسرة لِكثرة ما يحدث فيه من تحسر المجرمين على ما فرطوا فيه من أسباب النجاة، فكان ذلك اليوم كأنه مما اختصت به الحسرة، فهو يوم حسرة بالنسبة إليهم وإن كان يوم فرح بالنسبة إلى الصالحين‏.‏

واللام في الحسرة على هذا الوجه لام العهد الذهني، ويجوز أن يكون اللام عوضاً عن المضاف إليه، أي يوم حسرة الظالمين‏.‏

ومعنى قضى الأمر‏:‏ تُمّم أمر الله بزجهم في العذاب فلا معقب له‏.‏

ويجوز أن يكون المراد بالأمر أمر الله بمجيء يوم القيامة، أي إذ حشروا‏.‏ و‏(‏إذ‏)‏ اسم زمان، بدل من يوم الحسرة‏.‏

وجملة وهم في غفلة حال من الأمر وهي حال سببية، إذ التقدير‏:‏ إذ قضي أمرهم‏.‏

والغفلة‏:‏ الذهول عن شيء شأنُه أن يعلم‏.‏

ومعنى جملة الحال على الاحتمال الأول في معنى الأمرِ الكناية عن سرعة صدور الأمر بتعذيبهم، أي قضي أمرهم على حين أنهم في غفلة، أي بهت‏.‏ وعلى الاحتمال الثاني تحذير من حلول يوم القيامة بهم قبل أن يؤمنوا كقوله ‏{‏لا تأتيكم إلا بغتة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 187‏]‏، وهذا أليق بقوله‏:‏ ‏{‏وهم لا يؤمنون‏.‏

ومعنى وهم لا يؤمنون استمرار عدم إيمانهم إلى حلول قضاء الأمر يوم الحسرة‏.‏ فاختيار صيغة المضارع فيه دون صيغة اسم الفاعل لما يدلّ عليه المضارع من استمرار الفعل وقتاً فوقتاً استحضاراً لذلك الاستمرار العجيب في طوله وتمكنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

تذييل لختم القصة على عادة القرآن في تذييل الأغراض عند الانتقال منها إلى غيرها‏.‏ والكلام موجّه إلى المشركين لإبلاغه إليهم‏.‏

وضمير ‏{‏يرجعون عائد إلى من عليها وإلى ما عاد إليه ضمير الغيبة في ‏{‏وأنذرهم‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 39‏]‏‏.‏

وحقيقة الإرث‏:‏ مصير مال الميت إلى من يبقى بعده‏.‏ وهو هنا مجاز في تمحض التصرف في الشيء دون مشارك‏.‏ فإن الأرض كانت في تصرف سكانها من الإنسان والحيوان كلّ بما يناسبه، فإذا هلك الناس والحيوان فقد صاروا في باطن الأرض وصارت الأرض في غير تصرفهم فلم يبق تصرف فيها إلا لخالقها، وهو تصرف كان في ظاهر الأمر مشتركاً بمقدار ما خولهم الله التصرف فيها إلى أجلٍ معلوم، فصار الجميع في محض تصرف الله، ومن جملة ذلك تصرفه بالجزاء‏.‏

وتأكيد جملة ‏{‏إنا نحن نرث الأرض بحرف التوكيد لدفع الشك لأن المشركين ينكرون الجزاء، فهم ينكرون أن الله يرث الأرض ومن عليها بهذا المعنى‏.‏

وأما ضمير الفصل في قوله نحن نرث الأرض فهو لمجرد التأكيد ولا يفيد تخصيصاً، إذ لا يفيد ردّ اعتقادٍ مخالفٍ لذلك‏.‏

وظهر لي‏:‏ أن مجيء ضمير الفصل بمجرد التأكيد كثير إذا وقع ضمير الفصل بعد ضمير آخر نحو قوله ‏{‏إنني أنا الله‏}‏ في سورة طه ‏(‏14‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وهم بالأخرة هم كافرون‏}‏ في سورة يوسف ‏(‏37‏)‏‏.‏

وأفاد هذا التذييل التعريف بتهديد المشركين بأنهم لا مفرّ لهم من الكون في قبضة الربّ الواحد الذي أشركوا بعبادته بعضَ ما على الأرض، وأن آلهتهم ليست بمرجوة لنفعهم إذ ما هي إلاّ مما يرثه الله‏.‏

وبذلك كان موقع جملة وإلينا يرجعون بيّناً، فالتقديم مفيد القصر، أي لا يرجعون إلى غيرنا‏.‏ ومحمل هذا التقديم بالنسبة إلى المسلمين الاهتمام ومحمله بالنسبة إلى المشركين القصر كما تقدم في قوله‏:‏ إنا نحن نرث الأرض‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ‏(‏41‏)‏ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ‏(‏42‏)‏‏}‏

قد تقدم أن من أهم ما اشتملت عليه هذه السورة التنويه بالأنبياء والرسل السالفين‏.‏ وإذ كان إبراهيم عليه السلام أبَا الأنبياء وأوّل من أعلن التوحيد إعلاناً باقياً، لبنائه له هيكلَ التوحيد وهو الكعبة، كان ذكر إبراهيم من أغراض السورة، وذُكر عقب قصة عيسى لمناسبة وقوع الرد على المشركين في آخر القصة ابتداء من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 37‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إنا نحن نرث الأرض ومن عليها‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 40‏]‏‏.‏ ولما كان إبراهيم قد جاء بالحنيفية وخالفها العرب بالإشراك وهم ورثة إبراهيم كان لتقديم ذكره على البقية الموقع الجليل من البلاغة‏.‏

وفي ذلك تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم على ما لقي من مشركي قومه لمشابهة حالهم بحال قوم إبراهيم‏.‏

وقد جرى سَرد خبر إبراهيم عليه السلام على أسلوبِ سرد قصة مريم عليها السلام لما في كل من الأهمية كما تقدم‏.‏

وتقدم تفسير ‏{‏واذكر في الكتاب‏}‏ في أول قصة مريم ‏(‏16‏)‏‏.‏

والصديق بتشديد الدال صيغة مبالغة في الاتصاف، مثل الملك الضّليل لقب امرئ القيس، وقولهم‏:‏ رجل مِسيّك‏:‏ أي شحيح، ومنه طعام حرّيف، ويقال‏:‏ دليل خِرّيت، إذا كان ذا حذق بالطرق الخفية في المفاوز، مشتقاً من الخَرت وهو ثقب الشيء كأنه يثقب المسدودات ببصره‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوسف أيها الصديق‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 46‏]‏‏.‏ وصف إبراهيم بالصدّيق لفرط صدقه في امتثال ما يكلفه الله تعالى لا يصده عن ذلك ما قد يكون عذراً للمكلف مثل مبادرته إلى محاولة ذَبح ولده حين أمره الله بذلك في وحي الرؤيا، فالصدق هنا بمعنى بلوغ نهاية الصفة في الموصوف بها، كما في قول تأبّط شرّاً‏:‏

إني لمهد من ثنائي فقاصدبه لابن عم الصّدّق شُمس بن مالكوتأكيد هذا الخبر بحرف التوكيد وبإقحام فعل الكون للاهتمام بتحقيقه زيادة في الثناء عليه‏.‏

وجملة ‏{‏إنه كان صديقاً نبيا واقعة موقع التعليل للاهتمام بذكره في التلاوة، وهذه الجملة معترضة بين المبدل منه والبدل، فإن ‏(‏إذ‏)‏ اسم زمان وقع بدلاً من إبراهيم، أي اذكر ذلك خصوصاً من أحوال إبراهيم فإنه أهمّ ما يذكر فيه لأنه مظهر صديقيته إذ خاطب أباه بذلك الإنكار‏.‏

والنبي‏:‏ فعيل بمعنى مفعول، من أنبأه بالخبر‏.‏ والمراد هنا أنه منبّأ من جانب الله تعالى بالوحي‏.‏ والأكثر أن يكون النبي مرسلاً للتبليغ، وهو معنى شرعي، فالنبي فيه حقيقة عرفية‏.‏ وتقدم في سورة البقرة ‏(‏246‏)‏ عند قوله‏:‏ ‏{‏إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً‏}‏، فدل ذلك على أن قوله لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر إنما كان عن وحي من الله ليبلغ قومه إبطال عبادة الأصنام‏.‏

وقرأ الجمهور نبيا بياء مشددة بتخفيف الهمزة ياء لثقلها ولمناسبة الكسرة‏.‏

وقرأه نافع وحده ‏(‏نبيئاً‏)‏ بهمزة آخره، وبذلك تصير الفاصلة القرآنية على حرف الألف، ومثل تلك الفاصلة كثير في فواصل القرآن‏.‏

وقوله‏:‏ إذ قال لأبيه الخ بدل اشتمال من ‏(‏إبراهيم‏)‏‏.‏ و‏(‏إذ‏)‏ اسم زمان مجرد عن الظرفية لأن ‏(‏إذ‏)‏ ظرف متصرف على التحقيق‏.‏ والمعنى‏:‏ اذكر إبراهيم زمان قوله لأبيه فإن ذلك الوقت أجدر أوقات إبراهيم بأن يذكر‏.‏

وأبو إبراهيم هو ‏(‏آزار‏)‏ تقدم ذكره في سورة الأنعام‏.‏

وافتتح إبراهيم خطابه أباه بندائه مع أن الحضرة مغنية عن النداء قصداً لإحضار سمعه وذهنه لتلقي ما سيلقيه إليه‏.‏

قال الجد الوزير رحمه الله فيما أملاه عليّ ذات ليلة من عام 1318 ه فقال‏:‏

علم إبراهيم أن في طبع أهل الجهالة تحقيرهم للصغير كيفما بلغ حاله في الحذق وبخاصة الآباء مع أبنائهم، فتوجه إلى أبيه بخطابه بوصف الأبوة إيماء إلى أنه مخلص له النصيحة، وألقى إليه حجّة فساد عبادته في صورة الاستفهام عن سبب عبادته وعمله المخطئ، منبّهاً على خطئه عندما يتأمل في عمله، فإنه إن سمع ذلك وحاول بيان سبب عبادة أصنامه لم يجد لنفسه مقالاً ففطِن بخطل رأيه وسفاهة حلمه، فإنه لو عبد حيّاً مميزاً لكانت له شبهة ما‏.‏ وابتدأ بالحجة الراجعة إلى الحِسّ إذ قال له‏:‏ لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر فذلك حجة محسوسة، ثم أتبعها بقوله‏:‏ ولا يغني عنك شيئاً، ثم انتقل إلى دفع ما يخالج عقل أبيه من النفور عن تلقي الإرشاد من ابنه بقوله‏:‏ ‏{‏يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 43‏]‏، فلما قضى حق ذلك انتقل إلى تنبيهه على أن ما هو فيه أثر من وساوس الشيطان، ثم ألقى إليه حجة لائقة بالمتصلبين في الضلال بقوله‏:‏ ‏{‏يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمان فتكون للشيطان وليا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 45‏]‏، أي إن الله أبلغ إليك الوعيد على لساني، فإن كنتَ لا تجزم بذلك فافرض وقوعه فإنّ أصنامك لم تتوعدك على أن تفارق عبادتها‏.‏ وهذا كما في الشعر المنسوب إلى علي رضي الله عنه‏:‏

زعم المنجّم والطّبيب كلاهمالا تحشر الأجسام قلت‏:‏ إليكماإن صحّ قولكما فلست بخاسرأو صح قولي فالخسار عليكماقال‏:‏ وفي النداء بقوله‏:‏ ‏{‏يا أبت‏}‏ أربع مرات تكريرٌ اقتضاه مقام استنزاله إلى قبول الموعظة لأنها مقام إطناب‏.‏ ونَظَّرَ ذلك بتكرير لقمان قوله‏:‏ ‏{‏يا بني‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13 16‏]‏ ثلاث مرات، قال‏:‏ بخلاف قول نوح لابنه‏:‏ ‏{‏يا بني اركب معنا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 42‏]‏ مرة واحدة دون تكرير لأنّ ضيق المقام يقتضي الإيجاز وهذا من طرق الإعجاز»‏.‏ انتهى كلامه بما يقارب لفظه‏.‏

وأقول‏:‏ الوجه ما بني عليه من أن الاستفهام مستعمل في حقيقته، كما أشار إليه صاحب «الكشاف»، ومكنى به عن نفي العلّة المسؤول عنها بقوله‏:‏ ‏{‏لم تعبد، فهو كناية عن التعجيز عن إبداء المسؤول عنه، فهو من التورية في معنيين يحتملهما الاستفهام‏.‏

وأبت‏:‏ أصله أبي، حذفوا ياء المتكلم وعوضوا عنها تاء تعويضاً على غير قياس، وهو خاص بلفظ الأب والأم في النداء خاصة، ولعله صيغة باقية من العربية القديمة‏.‏ ورأى سيبويه أن التاء تصير في الوقف هاء، وخالفه الفراء فقال‏:‏ ببقائها في الوقف‏.‏ والتاء مكسورة في الغالب لأنها عوض عن الياء والياء بنت الكسرة ولما كسروها فتحوا الياء وبذلك قرأ الجمهور‏.‏ وقرأ ابن عامر، وأبو جعفر‏:‏ ‏(‏يأبتَ‏)‏ بفتح التاء دون ألف بعدها، بنَاء على أنهم يقولون ‏(‏يا أبتَا‏)‏ بألف بعد التاء لأن ياء المتكلم إذا نودي يجوز فتحها وإشباع فتحتها فقرأه على اعتبار حذف الألف تخفيفاً وبقاء الفتحة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ‏(‏43‏)‏‏}‏

إعادة ندائه بوصف الأبوّة تأكيد لإحضار الذهن ولإمحاض النصيحة المستفاد من النداء الأول‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏ «ثم ثنى بدعوته إلى الحق مترفقاً به متلطفاً، فلم يَسِمْ أباه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق ولكنه قال‏:‏ إن معي طائفة من العلم ليست معك، وذلك عِلم الدلالة على الطريق السويّ، فلا تستنكف، وهب أني وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه» اه‏.‏ ذلك أن أباه كان يرى نفسه على علم عظيم لأنه كان كبير ديانة قومه‏.‏ وأراد إبراهيم علم الوحي والنبوءة‏.‏

وتفريع أمره بأن يتبعه على الإخبار بما عنده من العلم دليل على أن أحقية العالِم بأن يُتبع مركوزة في غريزة العقول لم يزل البشر يتقصّون مظانّ المعرفة والعلم لجلب ما ينفع واتقاءِ ما يضر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 43‏]‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏أهدك صراطاً سوياً استعارة مكنية؛ شبه إبراهيم بهادي الطريق البصير بالثنايا، وإثبات الصراط السويّ قرينة التشبيه، وهو أيضاً استعارة مصرحة بأن شبه الاعتقاد الموصل إلى الحق والنجاة بالطريق المستقيم المبلغ إلى المقصود‏.‏

ويا أبت تقدّم الكلام على نظيره قريباً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ‏(‏44‏)‏‏}‏

إعادة النداء لزيادة تأكيد ما أفاده النداء الأول والثاني‏.‏

والمراد بعبادة الشيطان عبادة الأصنام؛ عبر عنها بعبادة الشيطان إفصاحاً عن فسادها وضلالها، فإن نسبة الضلال والفساد إلى الشيطان مقررة في نفوس البشر، ولكن الذين يتبعونه لا يفطنون إلى حالهم ويتبعون وساوسه تحت ستار التمويه مثل قولهم ‏{‏إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 23‏]‏، ففي الكلام إيجاز لأن معناه‏:‏ لا تعبد الأصنام لأن اتخاذها من تسويل الشيطان للذين اتخذوها ووضعوها للناس، وعبادتَها من وساوس الشيطان للذين سنّوا سنن عبادتها، ومن وساوسه للناس الذين أطاعوهم في عبادتها، فمن عَبَد الأصنام فقد عبد الشيطان وكفى بذلك ضلالاً معلوماً‏.‏

وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً‏}‏ وتقدم في سورة النساء ‏(‏117‏)‏‏.‏ وفي هذا تبغيض لعبادة الأصنام، لأن في قرارة نفوس الناس بغض الشيطان والحذر من كيده‏.‏

وجملة إن الشيطان كان للرحمان عصياً تعليل للنهي عن عبادته وعبادة آثار وسوسته بأنه شديد العصيان للرب الواسع الرحمة‏.‏ وذكر وصف عصياً الذي هو من صيغ المبالغة في العصيان مع زيادة فعل ‏(‏كَانَ‏)‏ للدلالة على أنه لا يفارق عصيان ربه وأنه متمكن منه، فلا جرم أنه لا يأمر إلا بما ينافي الرحمة، أي بما يفضي إلى النقمة، ولذلك اختير وَصف الرحمان من بين صفات الله تعالى تنبيهاً على أن عبادة الأصنام توجب غضب الله فتفضي إلى الحرمان من رحمته، فمن كان هذا حاله فهو جدير بأن لا يتبع‏.‏

وإظهار اسم الشيطان في مقام الإضمار، إذ لم يقل‏:‏ إنه كان للرحمان عصيّاً، لإيضاح إسناد الخبر إلى المسند إليه، ولزيادة التنفير من الشيطان، لأن في ذكر صريح اسمه تنبيهاً إلى النفرة منه، ولتكون الجملة موعظة قائمة بنفسها‏.‏ وتقدّم الكلام على يا أبت قريباً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ‏(‏45‏)‏‏}‏

لا جرم أنه لما قرر له أن عبادته الأصنام اتّباع لأمر الشيطان عصيّ الرحمان انتقل إلى توقع حرمانه من رحمة الله بأن يحلّ به عذاب من الله، فحذره من عاقبة أن يصير من أولياء الشيطان الذين لا يختلف البشر في مذمتهم وسوء عاقبتهم، ولكنهم يندمجون فيهم عن ضلال بمآل حالهم‏.‏

وللإشارة إلى أن أصل حلول العذاب بمن يحلّ به هو الحرمان من الرحمة في تلك الحالة؛ عبر عن الجلالة بوصف الرحمان للإشارة إلى أن حلول العذاب ممن شأنُه أن يرحم إنما يكون لفظاعة جرمه إلى حد أن يحرمه من رحمته مَن شأنه سعة الرحمة‏.‏

والولي‏:‏ الصاحب والتابع ومن حالهما حال واحدة وأمرهما جميع؛ فكني بالولاية عن المقارنة في المصير‏.‏

والتعبير بالخوف الدال على الظن دون القطع تأدب مع الله تعالى بأن لا يُثبت أمراً فيما هو من تصرف الله، وإبْقاء للرجاء في نفس أبيه لينظر في التخلّص من ذلك العذاب بالإقلاع عن عبادة الأوثان‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏فتكون للشيطان وليا فتكون في اتباع الشيطان في العذاب‏.‏ وتقدّم الكلام على يا أبت قريباً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ‏(‏46‏)‏‏}‏

فصلت جملة‏:‏‏.‏‏.‏‏.‏ لوقوعها في المحاورة كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏30‏)‏‏.‏

والاستفهام للإنكار إنكاراً لتجافي إبراهيم عن عبادة أصنامهم‏.‏ وإضافة الآلهة إلى ضمير نفسه إضافة ولاية وانتساب إلى المضاف لقصد تشريف المضاف إليه‏.‏

وقد جاء في جوابه دعوة ابنه بمنتهى الجفاء والعُنجهية بعكسِ ما في كلام إبراهيم من الليّن والرقة، فدلّ ذلك على أنه كان قاسيَ القلب، بعيد الفهم، شديد التصلّب في الكفر‏.‏

وجملة أراغب أنت جملة اسمية مركبة من مبتدأ وفاعل سدّ مسدّ الخبر على اصطلاح النحاة طرداً لقواعد التركيب اللفظي، ولكنهم لما اعتبروا الاسم الواقع ثانياً بعد الوصف فاعلاً سادّاً مسدّ الخبر فقد أثبتوا لذلك الاسم حكم المسند إليه وصار للوصف المبتدأ حكم المُسند‏.‏ فمن أجل ذلك كان المصير إلى مثل هذا النظم في نظر البلغاء هو مقتضى كون المقام يتطلّب جملة اسمية للدلالة على ثباتٍ المسند إليه، ويتطلّب الاهتمام بالوصف دون الاسم لغرض يوجب الاهتمام به، فيلتجئ البليغ إلى الإتيان بالوصف أولاً والإتيان بالاسم ثانياً‏.‏

ولمّا كان الوصف له عملُ فعله تعين على النحاة اعتبار الوصف مبتدأ لأن للمبتدأ عراقةً في الأسماء، واعتباره مع ذلك متطلّباً فاعلاً، وجعلوا فاعله سادّاً مسدّ الخبر، فصار للتركيب شبهان‏.‏ والتحقيقُ أنه في قوّة خبر مقدم ومبتدأ مؤخر‏.‏ ولهذا نظر الزمخشري في الكشاف إلى هذا المقصد فقال‏:‏ قُدم الخبر على المبتدأ في قوله‏:‏ أراغب أنت عن آلهتي لأنه كان أهمّ عنده وهو به أعنى اه‏.‏ ولله دره، وإن ضاع بين أكثر الناظرين دُرُّه‏.‏ فدل النظم في هذه الآية على أن أبا إبراهيم ينكر على إبراهيم تمكن الرغبة عن آلهتهم من نفسه، ويهتم بأمر الرغبة عن الآلهة لأنها موضع عَجب‏.‏

والنداء في قوله يا إبراهيم تكملة لجملة الإنكار والتعجب، لأنّ المتعجب من فعله مع حضوره يقصد بندائه تنبيهه على سوء فعله، كأنه في غيبة عن إدراك فعله، فالمتكلم ينزله منزلة الغائب فيناديه لإرجاع رشده إليه، فينبغي الوقف على قوله يا إبراهيم‏.‏

وجملة لئن لم تنته لأرجمنك مستأنفة‏.‏

واللام موطئة للقسم تأكيداً لكونه راجمهُ إن لم ينته عن كفره بآلهتهم‏.‏

والرجم‏:‏ الرمي بالحجارة، وهو كناية مشهورة في معنى القتل بذلك الرمي‏.‏ وإسنادُ أبي إبراهيم ذلك إلى نفسه يحتمل الحقيقة؛ إما لأنه كان من عادتهم أن الوالد يتحكم في عقوبة ابنه، وإما لأنه كان حاكماً في قومه‏.‏ ويحتمل المجاز العقلي إذ لعله كان كبيراً في دينهم فيرجم قومُه إبراهيمَ استناداً لحكمه بمروقه عن دينهم‏.‏

وجملة واهجرني مليا عطف على جملة لئن لم تنته لأرجمنك؛ وذلك أنه هدّده بعقوبة آجلة إن لم يقلع عن كفره بآلهتهم، وبعقوبة عاجلة وهي طردهُ من معاشرته وقطع مكالمته‏.‏

والهجر‏:‏ قطع المكالمة وقطع المعاشرة، وإنما أمر أبو إبراهيم ابنَه بهجرانه ولم يخبره بأنه هو يهجره ليدلّ على أن هذا الهجران في معنى الطرد والخَلْع إشعاراً بتحقيره‏.‏

ومليا‏:‏ طويلاً، وهو فعيل، ولا يعرف له فعل مجرد ولا مصدر‏.‏ فمليّ مشتق من مصدر مُمات، وهو فعيل بمعنى فاعل لأنه يقال‏:‏ أملى له، إذا أطال له المدة، فيأتون بهمزة التعدية، فمليا صفة لمصدر محذوف منصوب على المفعولية المطلقة، أي هجراً مَليّاً، ومنه الملاوة من الدهر للمدة المديدة من الزمان، وهذه المادة تدلّ على كثرة الشيء‏.‏

ويجوز أن ينتصب على الصفة لظرف محذوف، أي زماناً طويلاً، بناء على أن المَلا مقصوراً غالب في الزمان فذكره يغني عن ذكر موصوفه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحملناه على ذات ألواح‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 13‏]‏، أي سفينة ذات ألواح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 48‏]‏

‏{‏قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ‏(‏47‏)‏ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ‏(‏48‏)‏‏}‏

سلام عليك سلام توديع ومتاركة‏.‏ وبادرهُ به قبل الكلام الذي أعقبه به إشارة إلى أنه لا يسوءه ذلك الهجر في ذات الله تعالى ومرضاته‏.‏

ومن حلم إبراهيم أن كانت متكارته أباه مثوبة بالإحسان في معاملته في آخر لحظة‏.‏

والسلام‏:‏ السلامة‏.‏ و‏(‏على‏)‏ للاستعلاء المجازي وهو التمكن‏.‏ وهذه كلمة تحية وإكرام، وتقدمت آنفاً عند قوله ‏{‏وسلام عليه يوم ولد‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 15‏]‏‏.‏

وأظهر حرصه على هداه فقال ‏{‏سأستغفر لك ربي، أي أطلب منه لك المغفرة من هذا الكفر، بأن يهديه الله إلى التوحيد فيغفر له الشرك الماضي، إذ لم يكن إبراهيم تلقى نهياً من الله عن الاستغفار للمشرك‏.‏ وهذا ظاهر ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 114‏]‏‏.‏ واستغفاره له هو المحكي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واغفر لأبي إنه كان من الضالين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 86‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏سأستغفر لك ربي مستأنفة، وعلامة الاستقبال والفعل المضارع مؤذنان بأنه يكرر الاستغفار في المستقبل‏.‏

وجملة إنه كان بي حفيا تعليل لما يتضمنه الوعد بالاستغفار من رجاء المغفرة استجابة لدعوة إبراهيم بأن يوفق الله أبا إبراهيم للتوحيد ونبذِ الإشراك‏.‏

والحَفيّ‏:‏ الشديد البِر والإلطاف‏.‏ وتقدم في سورة الأعراف ‏(‏187‏)‏ عند قوله‏:‏ ‏{‏يسألونك كأنك حفي عنها‏}‏

وجملة وأعتزلكم عطف على جملة سأستغفر لك ربي، أي يقع الاستغفار في المستقبل ويقع اعتزالي إياكم الآن، لأن المضارع غالب في الحال‏.‏ أظهر إبراهيم العزم على اعتزالهم وأنه لا يتوانى في ذلك ولا يأسف له إذا كان في ذات الله تعالى، وهو المحكي بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 99‏]‏، وقد خرج من بَلد الكلدان عازماً على الالتحاق بالشام حسب أمر الله تعالى‏.‏

رأى إبراهيم أن هجرانه أباه غير مغن، لأن بقية القوم هم على رأي أبيه فرأى أن يهجرهم جميعاً، ولذلك قال له ‏{‏وأعتزلكم‏.‏

وضمير جماعة المخاطبين عائد إلى أبي إبراهيم وقومه تنزيلاً لهم منزلة الحضور في ذلك المجلس، لأن أباه واحد منهم وأمرهم سواء، أو كان هذا المقال جرى بمحضر جماعة منهم‏.‏

وعُطف على ضمير القوم أصنامُهم للإشارة إلى عداوته لتلك الأصنام إعلاناً بتغيير المنكر‏.‏

وعبر عن الأصنام بطريق الموصولية بقوله ما تدعون من دون الله للإيماء إلى وجه بناء الخبر وعلّة اعتزاله إياهم وأصنامَهم‏:‏ بأن تلك الأصنام تعبد من دون الله وأن القوم يعبدونها، فذلك وجه اعتزاله إياهم وأصنامهم‏.‏

والدعاء‏:‏ العبادة، لأنها تستلزم دعاء المعبود‏.‏

وزاد على الإعلان باعتزال أصنامهم الإعلان بأنه يدعو الله احتراساً من أن يحسبوا أنه نوى مجرد اعتزال عبادة أصنامهم فربما اقتنعوا بإمساكه عنهم، ولذا بيّن لهم أنه بعكس ذلك يدعو الله الذي لا يعبدونه‏.‏

وعبّر عن الله بوصف الربوبية المضاف إلى ضمير نفسه للإشارة إلى انفراده من بينهم بعبادة الله تعالى فهو ربّه وحده من بينهم، فالإضافة هنا تفيد معنى القصر الإضافي، مع ما تتضمنه الإضافة من الاعتزاز بربوبية الله إياه والتشريف لنفسه بذلك‏.‏

وجملة وعسى ألا أكون بدعاء ربي شقياً في موضع الحال من ضمير وأدعوا أي راجياً أن لا أكون بدعاء ربي شقياً‏.‏ وتقدم معناه عند قوله ‏{‏ولم أكن بدعائك رب شقياً‏}‏ في هذه السورة ‏(‏4‏)‏‏.‏ وفي إعلانه هذا الرجاء بين ظهرانيهم تعريض بأنهم أشقياء بدعاء آلهتهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 50‏]‏

‏{‏فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا ‏(‏49‏)‏ وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ‏(‏50‏)‏‏}‏

طُوي ذكر اعتزاله إياهم بعد أن ذكر عزمه عليه إيجازاً في الكلام للعلم بأن مثله لا يعزم أمراً إلاّ نفذ عزمه، واكتفاءً بذكر ما ترتّب عليه من جعل عزمه حدثاً واقعاً قد حصل جزاؤه عليه من ربّه، فإنه لما اعتزل أباه وقومه واستوحش بذلك الفراق وهبه الله ذرية يأنس بهم إذْ وهبه إسحاق ابنه، ويعقوب ابن ابنه، وجعلهما نبيئين‏.‏ وحسبك بهذه مكرمة له عند ربّه‏.‏

وليس مجازاة الله إبراهيم مقصورة على أن وهبه إسحاق ويعقوب، إذ ليس في الكلام ما يقتضي الانحصار، فإنه قد وهبه إسماعيل أيضاً، وظهرت موهبته إياه قبل ظهور موهبة إسحاق، وكل ذلك بعد أن اعتزل قومَه‏.‏

وإنما اقتُصر على ذكر إسحاق ويعقوب دون ذكر إسماعيل فلم يقل‏:‏ وهبنا له إسماعيل وإسحاق ويعقوب، لأن إبراهيم لما اعتزل قومه خرج بزوجه سارة قريبته، فهي قد اعتزلت قومها أيضاً إرضاء لربها ولزوجها، فذكر الله الموهبة الشاملة لإبراهيم ولزوجه، وهي أن وهب لهما إسحاق وبعده يعقوب؛ ولأن هذه الموهبة لما كانت كِفاء لإبراهيم على مفارقته أباه وقومه كانت موهِبةَ من يعاشر إبراهيم ويؤنسه وهما إسحاق ويعقوب‏.‏ أما إسماعيل فقد أراد الله أن يكون بعيداً عن إبراهيم في مكة ليكون جارَ بيت الله‏.‏ وإنه لجوار أعظم من جوار إسحاق ويعقوب أباهما‏.‏

وقد خصّ إسماعيل بالذكر استقلالاً عقب ذلك، ومِثلُه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 45‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏واذكر إسماعيل‏}‏ في سورة ص ‏(‏48‏)‏، وقد قال في آية الصافات ‏(‏99 101‏)‏ ‏{‏وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم‏}‏ إلى أن قال‏:‏ وبشرناه بإسحاق نبيا م الصالحين فذكر هنالك إسماعيل عقب قوله‏:‏ إني ذاهب إلى ربي سيهدين إذ هو المراد بالغلام الحليم‏.‏

والمراد بالهبة هنا‏:‏ تقدير ما في الأزل عند الله لأن ازدياد إسحاق ويعقوب كان بعد خروج إبراهيم بمدة بعد أن سَكَن أرض كنعان وبعد أن اجتاز بمصر ورجع منها‏.‏ وكذلك ازدياد إسماعيل كان بعد خروجه بمدة وبعد أن اجتاز بمصر كما ورد في الحديث وفي التوراة، أو أُريد حكاية هبة إسحاق ويعقوب فيما مضى بالنسبة إلى زمن نزول القرآن تنبيهاً بأن ذلك جزاؤه على إخلاصه‏.‏

والنكتة في ذكر يعقوب أن إبراهيم رآه حفيداً وسُرّ به، فقد ولد يعقوب قبل موت إبراهيم بخمس عشرة سنة، وأن من يعقوب نشأت أمّة عظيمة‏.‏

وحرف ‏(‏لما‏)‏ حرف وجودٍ لوجودٍ، أي يقتضي وجود جوابه لأجل وجود شرطه فتقتضي جملتين، والأكثر أن يكون وجود جوابها عند وجود شرطها، وقد تكون بينهما فترة فتدل على مجرد الجزائية، أي التعليل دون توقيت، وذلك كما هنا‏.‏

وضمير لهم عائد إلى إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام‏.‏

و ‏(‏من‏)‏ في قوله ‏{‏ومن ذريتهما محسن‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 113‏]‏ إما حرف تبعيض صفة لمحذوف دلّ عليه ‏{‏وهبنا، أي موهوباً من رحمتنا‏.‏ وإما اسم بمعنى بَعض بتأويل، كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏8‏)‏‏.‏ وإن كان النحاة لم يثبتوا لكلمة ‏(‏مِن‏)‏ استعمالها اسماً كما أثبتوا ذلك لكلمات ‏(‏الكاف‏)‏ و‏(‏عن‏)‏ و‏(‏على‏)‏ لكن بعض موارد الاستعمال تقتضيه، كما قال التفتزاني في حاشية الكشاف، وأقرّه عبْد الحكيم‏.‏ وعلى هذا تكون ‏(‏مِن‏)‏ في موضع نصب على المفعول به لفعل وهبنا، أي وهبنا لهم بعضَ رحمتنا، وهي النبوءة، لأنها رحمة لهم ولمن أرسلوا إليهم‏.‏

واللسان‏:‏ مجاز في الذكر والثناء‏.‏

ووصف لسان بصدق وصفاً بالمصدر‏.‏

الصدق‏:‏ بلوغ كمال نوعه، كما تقدم آنفاً، فلسان الصدق ثناء الخير والتبجيل، ووصف بالعلوّ مجازاً لشرف ذلك الثناء‏.‏

وقد رتّب جزاء الله إبراهيم على نبذه أهل الشرك ترتيباً بديعاً إذ جوزي بنعمة الدنيا وهي العقب الشريف، ونعمة الآخرة وهي الرحمة، وبأثر تينك النعمتين وهو لسان الصدق، إذ لا يذكر به إلا من حصل النعمتين‏.‏

وتقدم اختلاف القراء في نبيئا عند ذكر إبراهيم عليه السلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 53‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ‏(‏51‏)‏ وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ‏(‏52‏)‏ وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ‏(‏53‏)‏‏}‏

أفضت مناسبة ذكر إبراهيم ويعقوب إلى أن يذكر موسى في هذا الموضع لأنه أشرف نبي من ذرية إسحاق ويعقوب‏.‏

والقول في جملة ‏{‏واذكر وجملة إنه كان كالقول في نظيريهما في ذكر إبراهيم عدا أن الجملة هنا غير معترضة بل مجرد استئناف‏.‏

وقرأ الجمهور مخلصاً بكسر اللام من أخلص القاصر إذا كان الإخلاص صفته‏.‏ والإخلاص في أمر ما‏:‏ الإتيانُ به غير مشوب بتقصير ولا تفريط ولا هوادة، مشتق من الخلوص، وهو التمحض وعدم الخلط‏.‏ والمراد هنا‏:‏ الإخلاص فيما هو شأنه، وهو الرسالة بقرينة المقام‏.‏

وقرأه حمزة، وعاصم، والكسائي، وخلف بفتح اللام من أخلصه، إذا اصطفاه‏.‏

وخُص موسى بعنوان ‏(‏المخلص‏)‏ على الوجهين لأن ذلك مزيته، فإنه أخلص في الدعوة إلى الله فاستخف بأعظم جبار وهو فرعون، وجادله مجادلة الأكفاء، كما حكى الله عنه في قوله تعالى في سورة الشعراء ‏(‏18، 19‏)‏‏:‏ ‏{‏قال ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين‏}‏ إلى قوله‏:‏ قال أولو جئتك بشيء مبين‏.‏ وكذلك ما حكاه الله عنه بقوله‏:‏ ‏{‏قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 17‏]‏، فكان الإخلاص في أداء أمانة الله تعالى ميزته‏.‏ ولأن الله اصطفاه لكلامه مباشرة قبل أن يرسل إليه المَلك بالوحي، فكان مخلَصاً بذلك، أي مصطفى، لأن ذلك مزيته قال تعالى ‏{‏واصطنعتك لنفسي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 41‏]‏‏.‏

والجمع بين وصف موسى لأنه رسول ونبيء‏.‏ وعطف ‏{‏نبيئاً على رسولاً مع أن الرسول بالمعنى الشرعي أخص من النبي، فلأن الرسول هو المرسلَ بوحي من الله ليبلغ إلى الناس فلا يكون الرسول إلا نبيئاً، وأما النبي فهو المنبّأ بوحي من الله وإن لم يؤمر بتبليغه، فإذا لم يؤمر بالتبليغ فهو نبيء وليس رسولاً، فالجمع بينهما هنا لتأكيد الوصف، إشارة إلى أن رسالته بلغت مبلغاً قوياً، فقوله نبيئاً تأكيد لوصف رسولاً‏.‏

وتقدم اختلاف القراء في لفظ نبيئاً عند ذكر إبراهيم‏.‏

وجملة وناديناه عطف على جملة إنه كان مخلصاً فهي مثلها مستأنفة‏.‏

والنداء‏:‏ الكلام الدال على طلب الإقبال، وأصله‏:‏ جهر الصوت لإسماع البعيد، فأطلق على طلب إقبال أحد مجازاً مرسَلاً، ومنه ‏{‏إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏، وهو مشتق من الندى بفتح النون وبالقصر وهو بُعد الصوت‏.‏ ولم يسمع فعله إلاّ بصيغة المفاعلة، وليست بحصول فعل من جانبين بل المفاعلة للمبالغة، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏171‏)‏، وعند قوله‏:‏ ‏{‏ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏193‏)‏‏.‏

وهذا النداء هو الكلام الموجه إليه من جانب الله تعالى‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلامي‏}‏

في سورة الأعراف ‏(‏144‏)‏، وتقدم تحقيق صفته هناك، وعند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يسمع كلام اللَّه‏}‏ في سورة براءة ‏(‏6‏)‏‏.‏

والطّور‏:‏ الجبل الواقع بين بلاد الشام ومصر، ويقال له‏:‏ طور سيناء‏.‏

وجانبه‏:‏ ناحيته السفلى، ووصفه بالأيمن لأنه الذي على يمين مستقبل مشرق الشمس، لأن جهة مشرق الشمس هي الجهة التي يضبط بها البشر النواحي‏.‏

والتقريب‏:‏ أصله الجعل بمكان القرب، وهو الدنو وهو ضد البعد‏.‏ وأريد هنا القرب المجازي وهو الوحي‏.‏ فقوله‏:‏ نَجِيّاً‏}‏ حال من ضمير ‏{‏موسى‏}‏، وهي حال مؤكدة لمعنى التقريب‏.‏

ونجّي‏:‏ فعيل بمعنى مفعول من المناجاة‏.‏ وهي المحادثة السرية؛ شُبّه الكلام الذي لم يكلم بمثله أحداً ولا أطْلَع عليه أحداً بالمناجاة‏.‏ وفعيل بمعنى مفعول، يجيء من الفعل المزيد المجرد بحذف حرف الزيادة، مثل جليس ونديم ورضيع‏.‏

ومعنى هبة أخيه له‏:‏ أن الله عزّزه به وأعانه به، إذ جعله نبيئاً وأمره أن يرافقه في الدعوة، لأن في لسان موسى حُبسة، وكان هارون فصيح اللسان، فكان يتكلم عن موسى بما يريد إبلاغه، وكان يستخلفه في مهمات الأمة‏.‏ وإنما جعلت تلك الهبة من رحمة الله لأن الله رحم موسى إذ يسّر له أخاً فصيح اللسان، وأكمله بالإنباء حتى يعلم مراد موسى مما يبلغه عن الله تعالى‏.‏ ولم يوصف هارون بأنه رسول إذ لم يرسله الله تعالى، وإنما جعله مبلّغاً عن موسى‏.‏ وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقولا إنا رسولا ربك‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 47‏]‏ فهو من التغليب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 55‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ‏(‏54‏)‏ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ‏(‏55‏)‏‏}‏

خصّ إسماعيل بالذكر هنا تنبيهاً على جدارته بالاستقلال بالذكر عقب ذكر إبراهيم وابنه إسحاق، لأن إسماعيل صار جدّ أمة مستقلة قبل أن يصير يعقوب جدّ أمة، ولأن إسماعيل هو الابن البكر لإبراهيم وشريكُه في بناء الكعبة‏.‏ وتقدم ذكر إسماعيل عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏127‏)‏‏.‏

وخصه بوصف صدق الوعد لأنه اشتهر به وتركه خُلقاً في ذريته‏.‏

وأعظم وعْدٍ صدقَه وعدُه إياه إبراهيم بأن يجده صابراً على الذبح فقال ‏{‏ستجدني إن شاء الله من الصابرين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 102‏]‏‏.‏

وجعله الله نبيئاً ورسولاً إلى قومه، وهم يومئذ لا يعدون أهله أمه وبنيه وأصهاره من جُرهم‏.‏ فلذلك قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة ثم إن أمة العرب نشأت من ذريته فهم أهله أيضاً، وقد كان من شريعته الصلاة والزكاة وشؤون الحنيفية ملة أبيه إبراهيم‏.‏

ورضى الله عنه‏:‏ إنعامه عليه نعماً كثيرة، إذ باركه وأنمى نسله وجعل أشرف الأنبياء من ذريته، وجعل الشريعة العظمى على لسان رسول من ذريته‏.‏

وتقدم اختلاف القراء في قراءة نبيئاً بالهمز أو بالياء المشددة‏.‏

وتقدم توجيه الجمع بين وصف رسول ونبيء عند ذكر موسى عليه السلام آنفاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 57‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ‏(‏56‏)‏ وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ‏(‏57‏)‏‏}‏

إدريس‏:‏ اسم جعل علماً على جد أبي نوح، وهو المسمى في التوراة ‏(‏أُخنُوخ‏)‏‏.‏ فنوح هو ابن لامك بن متُوشالح بن أُخنوخ، فلعل اسمه عند نسّابي العرب إدريس، أو أن القرآن سماه بذلك اسماً مشتقاً من الدرس لما سيأتي قريباً‏.‏ واسمه ‏(‏هرمس‏)‏ عند اليونان، ويُزعم أنه كذلك يسمى عند المصريين القدماء، والصحيح أن اسمه عند المصريين ‏(‏تُوت‏)‏ أو ‏(‏تحُوتي‏)‏ أو ‏(‏تهوتي‏)‏ لهجات في النطق باسمه‏.‏

وذكر ابن العِبْري في «تاريخه»‏:‏ «أن إدريس كان يلقب عند قدماء اليونان ‏(‏طريسمجيسطيس‏)‏، ومعناه بلسانهم ثلاثي التعليم، لأنه كان يصف الله تعالى بثلاث صفات ذاتية وهي الوجود والحكمة والحياة» اه‏.‏

ولا يخفى قرب الحروف الأولى في هذا الاسم من حروف إدريس، فلعل العرب اختصروا الاسم لطوله فاقتصروا على أوله مع تغيير‏.‏

وكان إدريس نبيئاً، ففي الإصحاح الخامس من سفر التكوين «وسار أُخنوخ مع الله»‏.‏ قيل‏:‏ هو أول من وضع للبشر عمارة المدن، وقواعد العلم، وقواعد التربية، وأول من وضع الخط، وعلّم الحساب بالنجوم وقواعدَ سير الكواكب، وتركيب البسائط بالنّار فلذلك كان علم الكيمياء ينسب إليه، وأوّل من علم الناس الخياطة‏.‏ فكان هو مبدأ من وضع العلوم، والحضارة، والنظم العقليّة‏.‏

فوجه تسميته في القرآن بإدريس أنّه اشتق له اسم من الفرس على وزن مناسب للأعلام العجميّة، فلذلك منع من الصرف مع كون حروفه من مادة عربية، كما منع إبليس من الصرف، وكما منع طالوت من الصرف‏.‏

وتقدّم اختلاف القراء في لفظ ‏{‏نبيئاً عند ذكر إبراهيم‏.‏

وقوله ورفعناه مكاناً علياً وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً‏}‏ قال جماعة من المفسرين هو رفع مجازي‏.‏ والمراد‏:‏ رفع المنزلة، لما أوتيه من العلم الذي فاق به على من سلفه‏.‏ ونقل هذا عن الحسن‏.‏ وقال به أبو مسلم الأصفهاني‏.‏ وقال جماعة‏:‏ هو رفع حقيقي إلى السماء، وفي الإصحاح الخامس من سفر التكوين «وسار أخنوخ مع الله ولم يُوجد لأنّ الله أخذه»، وعلى هذا فرفعه مثل رفع عيسى عليه السلام‏.‏ والأظهر أن ذلك بعد نزع روحه وروْحنة جثته‏.‏ ومما يذكر عنه أنّه بقي ثلاث عشرة سنة لا ينام ولا يأكل حتى تَرَوْحَن، فرفع‏.‏ وأما حديث الإسراء فلا حجة فيه لهذا القول لأنه ذكر فيه عدة أنبياء غيره وجدوا في السماوات‏.‏ ووقع في حديث مالك بن صعصعة عن الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات أنه وجد إدريس عليه السلام في السماء وأنه لمّا سلّم عليه قال‏:‏ مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح‏.‏ فأخذ منه أنّ إدريس عليه السلام لم تكن له ولادةٌ على النبي صلى الله عليه وسلم لأنّه لم يقل له والابن الصالح، ولا دليل في ذلك لأنه قد يكون قال ذلك اعتباراً بأخوّة التوحيد فرجحها على صلة النسب فكان ذلك من حكمته‏.‏

على أنّه يجوز أن يكون ذلك سهواً من الراوي فإن تلك الكلمة لم تثبت في حديث جابر بن عبدالله في «صحيح البخاري»‏.‏ وقد جزم البخاري في أحاديث الأنبياء بأن إدريس جد نوح أو جدّ أبيه‏.‏ وذلك يدلّ على أنّه لم ير في قوله «مرحباً بالأخ الصالح» ما يُنافي أن يكون أباً للنبيء صلى الله عليه وسلم

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ‏(‏58‏)‏‏}‏

الجملة استئناف ابتدائي، واسم الإشارة عائد إلى المذكورين من قوله ‏{‏ذكر رحمة ربك عبده زكرياء‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 2‏]‏ إلى هنا‏.‏ والإتيان به دون الضمير للتنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما يذكر بعد اسم الإشارة لأجل ما ذكر مع المشار إليهم من الأوصاف، أي كانوا أحرياء بنعمة الله عليهم وكونهم في عداد المهديين المجتبيْن وخليقين بمحبتهم لله تعالى وتعظيمهم إياه‏.‏

والمذكور بعد اسم الإشارة هو مضمون قوله ‏{‏أنعم الله عليهم‏}‏ وقوله ‏{‏وممّن هدينا واجتبينا‏}‏، فإن ذلك أحسن جزاء على ما قدموه من الأعمال، ومن أعطوه من مزايا النبوءة والصديقية ونحوهما‏.‏ وتلك وإن كانت نعماً وهداية واجتباء فقد زادت هذه الآية بإسناد تلك العطايا إلى الله تعالى تشريفاً لها، فكان ذلك التشريف هو الجزاء عليها إذ لا أزيد من المجازَى عليه إلاّ تشريفه‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏من النّبييّن بياءين بعد الموحدة‏.‏ وقرأه نافع وحده بهمزة بعد الموحدة‏.‏

وجملة إذَا تتلى عَليهم ءَاياتُ الرَّحْمانِ‏}‏ مستأنفة دالة على شكرهم نعم الله عليهم وتقريبه إياهم بالخضوع له بالسجود عند تلاوة آياته وبالبكاء‏.‏

والمراد به البكاء الناشئ عن انفعال النفس انفعالاً مختلطاً من التعظيم والخوف‏.‏

و ‏{‏سُجداً جمع ساجد‏.‏ وبُكيّاً جمع بَاك‏.‏ والأول بوزن فُعّل مثل عُذَّل، والثاني وزنه فعُول جمع فاعل مثل قوم قعود، وهو يائي لأنّ فعله بكى يبكي، فأصله‏:‏ بُكُويٌ‏.‏ فلما اجتمع الواو والياء وسبق إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وحركت عين الكلمة بحركة مناسبة للياء‏.‏ وهذا الوزن سماعي في جمع فاعل ومثله‏.‏

وهذه الآية من مواضع سجود القرآن المروية عن النبي اقتداء بأولئك الأنبياء في السجود عند تلاوة القرآن، فهم سجدوا كثيراً عند تلاوة آيات الله التي أنزلت عليهم، ونحن نسجد اقتداء بهم عند تلاوة الآيات التي أنزلت إلينا‏.‏ وأثنت على سجودهم قصداً للتشبه بهم بقدر الطاقة حين نحن متلبسون بذكر صنيعهم‏.‏

وقد سجد النبي عند هذه الآية وسنّ ذلك لأمته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 63‏]‏

‏{‏فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ‏(‏59‏)‏ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ‏(‏60‏)‏ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ‏(‏61‏)‏ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ‏(‏62‏)‏ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا ‏(‏63‏)‏‏}‏

فرع على الثناء عليهم اعتبارٌ وتنديد بطائفة من ذرياتهم لم يقتدوا بصالح أسلافهم وهم المعني بالخَلْف‏.‏

والخلْف بسكون اللام عقب السُوء، وبفتح اللام عقب الخير‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏169‏)‏‏.‏

وهو هنا يشمل جميع الأمم التي ضلّت لأنها راجعة في النّسب إلى إدريس جدّ نوح إذ هم من ذرية نوح ومن يرجع أيضاً إلى إبراهيم، فمنهم من يدلي إليه من نسل إسماعيل وهم العرب‏.‏ ومنهم من يدلي إليْه من نسل يعقوب وهم بنو إسرائيل‏.‏

ولفظ من بعدهم‏}‏ يشمل طبقات وقروناً كثيرة، ليس قيداً لأنّ الخلف لا يكون إلاّ من بعد أصله وإنّما ذُكر لاستحضار ذهاب الصالحين‏.‏

والإضاعة‏:‏ مجاز في التفريط بتشبيهه بإهمال العَرْض النفيس، فرطوا في عبادة الله واتبعوا شهواتهم فلم يخالفوا ما تميل إليه أنفسهم ممّا هو فساد‏.‏ وتقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً‏}‏ في سورة الكهف ‏(‏30‏)‏‏.‏

والصلاة‏:‏ عبادة الله وحده‏.‏

وهذان وصفان جامعان لأصناف الكفر والفسوق، فالشرك إضاعة للصلاة لأنّه انصراف عن الخضوع لله تعالى، فالمشركون أضاعوا الصلاة تماماً، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا لم نك من المصلّين‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 43‏]‏‏.‏ والشرك‏:‏ اتباع للشّهوات، لأنّ المشركين اتّبعوا عبادة الأصنام لمجرد الشهوة من غير دليل، وهؤلاء هم المقصود هنا، وغير المشركين كاليهود والنصارى فَرطوا في صلوات واتبعوا شهوات ابتدعوها، ويشمل ذلك كله اسم الغيّ‏.‏

والغيّ‏:‏ الضلال، ويطلق على الشرّ، كما أطلق ضده وهو الرشَد على الخير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً‏}‏ ‏[‏الجنّ‏:‏ 10‏]‏ وقوله ‏{‏قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً‏}‏ ‏[‏الجنّ‏:‏ 21‏]‏‏.‏ فيجوز أن يكون المعنى فسوف يلقون جزاء غيّهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يفعل ذلك يلق أثاماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏ أي جزاء الآثام‏.‏ وتقدم الغيّ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإخوانهم يمدونهم في الغي وقوله ‏{‏وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً‏}‏ كلاهما في سورة الأعراف ‏(‏202و 146‏)‏‏.‏ وقرينة ذلك مقابلته في ضدهم بقوله فأُولَئِكَ يدْخُلونَ الجنّة‏}‏‏.‏

وحرف ‏(‏سوف‏)‏ دال على أن لقاءهم الغيّ متكرر في أزمنة المستقبل مبالغة في وعيدهم وتحذيراً لهم من الإصرار على ذلك‏.‏

وقوله ‏{‏فأُولَئِكَ يدْخُلونَ الجنّة‏}‏ جيء في جانبهم باسم الإشارة إشادة بهم وتنبيهاً لهم للترغيب في توبتهم من الكفر‏.‏ وجيء بالمُضارع الدّال على الحال للإشارة إلى أنهم لا يُمْطَلُون في الجزاء‏.‏ والجنّة‏:‏ عَلَم لدار الثواب والنّعيم‏.‏ وفيها جنّات كثيرة كما ورد في الحديث‏:‏ «أَو جَنَّةٌ واحدة هي إنّها لجنان كثيرة»

والظلم‏:‏ هنا بمعنى النقص والإجحاف والمطل‏.‏ كقوله ‏{‏كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً في سورة الكهف ‏(‏33‏)‏‏.‏

وشي‏:‏ اسم بمعنى ذات أو موجود وليس المراد مصدر الظلم‏.‏

وذكر شيئاً في سياق النفي يفيد نفي كل فرد من أفراد النقص والإجحاف والإبطاء، فيعلم انتفاء النقص القوي بالفحوى دفعاً لما عسى أن يخالج نفوسهم من الانكسار بعد الإيمان يظن أنّ سبق الكفر يَحط من حسن مصيرهم‏.‏

وجَنَّات‏}‏ بدل من ‏{‏الجنّة‏.‏ جيء بصيغة جمع جنات مع أن المبدل منه مفرد لأنه يشتمل على جنات كثيرة كما علمت، وهو بدل مطابق وليس بدل اشتمال‏.‏

وعَدْن‏:‏ الخلد والإقامة، أي جنات خلد ووصفها ب التي وعد الرحمان عباده‏}‏ لزيادة تشريفها وتحسينها‏.‏ وفي ذلك إدماج لتبشير المؤمنين السابقين في أثناء وعد المدعوين إلى الإيمان‏.‏

والغيب‏:‏ مصدر غاب، فكل ما غاب عن المشاهدة فهو غيب‏.‏

وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يؤمنون بالغيب‏}‏ في أول البقرة ‏(‏3‏)‏‏.‏

والباء في بالغيب للظرفية، أي وعدها إياهم في الأزمنة الغائبة عنهم‏.‏ أي في الأزل إذ خلقها لهم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏أعدت للمتقين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 133‏]‏‏.‏ وفيه تنبيه على أنها وإن كانت محجوبة عنهم في الدنيا فإنها مهيئة لهم‏.‏

وجملة ‏{‏إنه كان وعده مأتياً‏}‏ تعليل لجملة ‏{‏التي وعد الرحمن عباده بالغيب‏}‏ أي يدخلون الجنة وعداً من الله واقعاً‏.‏ وهذا تحقيق للبشارة‏.‏

والوعد‏:‏ هنا مصدر مستعمل في معنى المفعول‏.‏ وهو من باب كَسا، فالله وعد المؤمنين الصالحين جنات عدن‏.‏ فالجنات لهم موعودة من ربهم‏.‏

والمأتِي‏:‏ الذي يأتيه غيره‏.‏ وقد استعير الإتيان لحصول المطلوب المترقب، تشبيهاً لمن يحصل الشيء بعد أن سعى لتحصيله بمن مشى إلى مكان حتى أتاه‏.‏ وتشبيهاً للشيء المحصل بالمكان المقصود‏.‏ ففي قوله ‏{‏مأتِيّا تمثيلية اقتصر من أجزائها على إحدى الهيئتين، وهي تستلزم الهيئة الأخرى لأنّ المأتي لا بد له من آت‏.‏

وجملة لا يسْمعُونَ فيها لغْواً‏}‏ حال من ‏{‏عبَادَه‏}‏‏.‏

واللغو‏:‏ فضول الكلام وما لا طائل تحته‏.‏ وإنفاؤه كناية عن انتفاء أقل المكدرات في الجنة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا تسمع فيها لاغية‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 11‏]‏، وكناية عن جعل مجازاة المؤمنين في الجنة بضد ما كانوا يلاقونه في الدنيا من أذى المشركين ولغوهم‏.‏

وقوله ‏{‏إلاَّ سلاما‏}‏ استثناء منقطع وهو مجاز من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه كقول النّابغة‏:‏

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب

أي لكن تسمعون سلاماً‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏تحيتهم فيها سلام‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 23‏]‏ وقال ‏{‏لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاماً‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 25، 26‏]‏‏.‏

والرزق‏:‏ الطعام‏.‏

وجيء بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات ذلك ودوامه، فيفيد التكرر المستمر وهو أخص من التكرر المفاد بالفعل المضارع وأكثر‏.‏ وتقديم الظرف للاهتمام بشأنهم، وإضافة رزق إلى ضميرهم لزيادة الاختصاص‏.‏

والبُكرة‏:‏ النصف الأول من النهار، والعَشي‏:‏ النصف الأخير، والجمع بينهما كناية عن استغراق الزمن، أي لهم رزقهم غير محصور ولا مقدّر بل كلما شاءوا فلذلك لم يذكر اللّيل‏.‏

وجملة ‏{‏تلك الجنّة‏}‏ مستأنفة ابتدائية‏.‏ واسم الإشارة لزيادة التمييز تنويهاً بشأنها وأجريت عليها الصفة بالموصول وصلته تنويهاً بالمتقين وأنهم أهل الجنة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أعدت للمتقين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 133‏]‏‏.‏

و ‏{‏نورث‏}‏ نجعل وارثاً، أي نعطي الإرث‏.‏ وحقيقة الإرث‏:‏ انتقال مال القريب إلى قريبه بعد موته لأنّه أولى الناس بماله فهو انتقال مقيّد بحالة‏.‏ واستعير هنا للعطيّة المدّخرة لمعطاها، تشبيهاً بمال المَوروث الذي يصير إلى وارثه آخر الأمر‏.‏

وقرأ الجمور ‏{‏نورث بسكون الواو بعد الضمة وتخفيف الراء، وقرأه رويس عن يعقوب‏:‏ نوَرّث بفتح الواو تشديد الراء من وَرّثه المضاعف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ‏(‏64‏)‏‏}‏

موقع هذه الآية هنا غريب‏.‏ فقال جمهور المفسرين‏:‏ إن سبب نزولها أنّ جبريل عليه السلام أبطأ أياماً عن النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنّ النبي ودّ أن تكون زيارة جبريل له أكثر مما هو يزوره فقال لجبريل‏:‏ ‏"‏ ألا تزورنا أكثر ممّا تزورنا ‏"‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏ومَا نَتَنَزَّلُ إلا بِأمْرِ رَبِّكَ‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏ أي إلى قوله ‏{‏نَسِيَّاً‏}‏، رواه البخاري والترمذي عن ابن عبّاس‏.‏ وظاهره أنه رواية وهو أصح ما روي في سبب نزولها وأليقه بموقعها هنا‏.‏ ولا يلتفت إلى غيره من الأقوال في سبب نزولها‏.‏

والمعنى‏:‏ أن الله أمر جبريل عليه السلام أن يقول هذا الكلام جواباً عنه، فالنظم نظم القرآن بتقدير‏:‏ وقل ما نتنزل إلاّ بأمر ربّك، أي قل يا جبريل، فكان هذا خطاباً لجبريل ليبلغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قرآناً‏.‏ فالواو عاطفة فعل القول المحذوف على الكلام الذي قبله عطف قصة على قصة مع اختلاف المخاطب، وأمرَ الله رسوله أن يقرأها هنا، ولأنّها نزلت لتكون من القرآن‏.‏

ولا شك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك لجبريل عليه السلام عند انتهاء قصص الأنبياء في هذه السورة فأثبتت الآية في الموضع الذي بلغ إليه نزول القرآن‏.‏

والضمير لجبريل والملائكة، أعلم الله نبيئه على لسان جبريل أن نزول الملائكة لا يقع إلاّ عن أمر الله تعالى وليس لهم اختيار في النزول ولقاء الرّسل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 27‏]‏‏.‏

و ‏{‏نتنزل‏}‏ مرادف ننزّل، وأصل التنزّل‏:‏ تكلّف النزول، فأطلق ذلك على نزول الملائكة من السماء إلى الأرض لأنّه نزول نادر وخروج عن عالمهم فكأنه متكلّف‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏تَنَزَّلُ الملائكة والروح فيها‏}‏ ‏[‏القدر‏:‏ 4‏]‏‏.‏

واللاّم في «له» للملك، وهو ملك التصرف‏.‏

والمراد ب ‏{‏مَا بَينَ أيْدِينَا‏}‏ ما هو أمامنا، وب ‏{‏وَمَا خَلْفَنا‏:‏‏}‏ ما هو وراءنا، وب ‏{‏ومَا بَينَ ذَلِكَ‏:‏‏}‏ ما كان عن أيمانهم وعن شمائلهم، لأن ما كان عن اليمين وعن الشمال هو بين الأمام والخلف‏.‏ والمقصود استيعاب الجهات‏.‏

ولمّا كان ذلك مخبراً عنه بأنه ملك لله تعين أن يراد به الكائنات التي في تلك الجهات، فالكلام مجاز مرسل بعلاقة الحلول، مثل ‏{‏واسأل القرية‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏، فيعمّ جميع الكائنات، ويستتبع عمومَ أحوالها وتصرفاتها مثل التنزل بالوحي‏.‏ ويستتبع عموم الأزمان المستقبل والماضي والحال، وقد فسر بها قوله ‏{‏ما بين أيدينا وما خَلْفنا وما بينَ ذلِكَ‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏ومَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً‏}‏ على هذا الوجه من الكلام الملقّن به جبريل جواباً للنبيء صلى الله عليه وسلم

و ‏{‏نسِيّاً‏:‏ صيغة مبالغة من نَسيَ، أي كثيرَ النسيان أو شديده‏.‏

والنسيان‏:‏ الغفلة عن توقيت الأشياء بأوقاتها، وقد فسروه هنا بتارك، أي ما كان ربّك تاركك وعليه فالمبالغة منصرفة إلى طول مدّة النسيان‏.‏ وفسر بمعنى شديد النسيان، فيتعين صرف المبالغة إلى جانب نسبة نفي النسيان عن الله، أي تحقيق نفي النسيان مثل المبالغة في قوله

‏{‏وما ربّك بظلام للعبيد‏}‏ ‏[‏فصّلت‏:‏ 46‏]‏ فهو هنا كناية عن إحاطة علم الله، أي إن تنزلنا بأمر الله لما هو على وفق علمه وحكمته في ذلك، فنحن لا نتنزل إلاّ بأمره‏.‏ وهو لا يأمرنا بالتنزل إلاّ عند اقتضاء علمه وحكمته أن يأمرنا به‏.‏

وجوز أبو مسلم وصاحب «الكشاف»‏:‏ أنّ هذه الآية من تمام حكاية كلام أهل الجنة بتقدير فعل يقولون حالاً من قوله ‏{‏من كان تقياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 63‏]‏، أي وما نتنزل في هذه الجنة إلاّ بأمر ربّك الخ، وهو تأويل حسن‏.‏

وعليه فكاف الخطاب في قوله ‏{‏بأمر ربك‏}‏ خطاب كلّ قائل لمخاطبه، وهذا التجويز بناء على أنّ ما روي عن ابن عباس رأي له في تفسير الآية لا تتعيّن متابعته‏.‏

وعليه فجملة ‏{‏ومَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً‏}‏ من قول الله تعالى لرسوله تذييلاً لما قبله، أو هي من كلام أهل الجنّة، أي وما كان ربّنا غافلاً عن إعطاء ما وعدنا به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ‏(‏65‏)‏‏}‏

جملة مستأنفة من كلام الله تعالى كما يقتضيه قوله ‏{‏فاعْبُدْهُ‏}‏ إلى آخره ذيل به الكلام الذي لقنه جبريل المتضمن‏:‏ أن الملائكة لا يتصرفون إلاّ عن إذن ربّهم وأنّ أحوالهم كلّها في قبضته بما يفيد عموم تصرفه تعالى في سائر الكائنات، ثمّ فرع عليه أمر الرسول عليه السلام بعبادته، فقد انتقل الخطاب إليه‏.‏

وارتفع ‏{‏رَبُّ السموات‏}‏ على الخبرية لمبتدأ محذوف ملتزم الحذف في المقام الذي يذكر فيه أحد بأخبار وأوصاف ثم يراد تخصيصه بخبر آخر‏.‏ وهذا الحذف سمّاه السكاكي بالحذف الذي اتّبِع فيه الاستعمال كقول الصولي أو ابن الزّبير بفتح الزاي وكسر الموحدة‏:‏

سأشكر عَمْرَاً إنْ تراختْ منيتي *** أياديَ لم تُمنَنْ وإنْ هيَ جلّتِ

فتىً غيرُ محجوب الغنى عن صديقه *** ولا مظهرُ الشكوى إذا النعل زلّت

والسماوات‏:‏ العوالم العلوية‏.‏ والأرض‏:‏ العالم السفلي، وما بينهما‏:‏ الأجواء والآفاق‏.‏ وتلك الثلاثة تعم سائر الكائنات‏.‏

والخطاب في ‏{‏فَاعبُدهُ واصْطَبِر‏}‏ و‏{‏هَلْ تَعْلَمُ‏}‏ للنبيء صلى الله عليه وسلم

وتفريع الأمر بعبادته على ذلك ظاهر المناسبة ويحصل منه التخلّص إلى التنويه بالتّوحيد وتفظيع الإشراك‏.‏

والاصطبار‏:‏ شدّة الصبر على الأمر الشاق، لأنّ صيغة الافتعال تَرِد لإفادة قوّة الفعل‏.‏ وكان الشأن أن يعدى الاصطبار بحرف ‏(‏على‏)‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وامر أهلك بالصلاة واصطبر عليها‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 132‏]‏ ولكنه عدي هنا باللاّم لتضمينه معنى الثّبات‏.‏ أي اثبت للعبادة، لأنّ العبادة مراتب كثيرة من مجاهدة النفس، وقد يغلب بعضها بعض النّفوس فتستطيع الصبر على بعض العبادات دون بعض كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء‏:‏ «هي أثقل صلاة على المنافقين» فلذلك لما أمر الله رسوله بالصبر على العبادة كلها وفيها أصناف جمّة تحتاج إلى ثبات العزيمة، نزل القائم بالعبادة منزلة المغالب لنفسه، فعدي الفعل باللاّم كما يقال‏:‏ اثبت لعُدَاتك‏.‏

وجملة ‏{‏هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً‏}‏ واقعة موقع التعليل للأمر بعبادته والاصطبار عليها‏.‏

والسميّ هنا الأحسن أن يكون بمعنى المُسامي، أي المماثل في شؤونه كلها‏.‏ فعن ابن عباس أنه فسّره بالنظير، مأخوذاً من المساماة فهو فعيل بمعنى فاعل، لكنه أخذ من المزيد كقول عمرو بن معد يكرب‏:‏

أمن ريحانة الداعي السميع *** أي المُسمع‏.‏ وكما سمي تعالى الحكيم، أي المُحكم للأمور، فالسميّ هنا بمعنى المماثل في الصفات بحيث تكون المماثلة في الصفات كالمساماة‏.‏

والاستفهام إنكاري، أي لا مسامي لله تعالى، أي ليس من يساميه، أي يضاهيه، موجوداً‏.‏

وقيل السميّ‏:‏ المماثل في الاسم‏.‏ كقوله في ذكر يحيى ‏{‏لم نجعل له من قبل سمياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 7‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ لا تعلم له مماثلاً في اسمه الله، فإن المشركين لم يسموا شيئاً من أصنامهم الله باللاّم وإنّما يقولون للواحد منها إله، فانتفاء تسمية غيره من الموجودات المعظمة باسمه كناية عن اعتراف الناس بأن لا مماثل له في صفة الخالقية، لأنّ المشركين لم يجترئوا على أن يدعوا لآلهتهم الخالقية‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وبذلك يتمّ كون الجملة تعليلاً للأمر بإفراده بالعبادة على هذا الوجه أيضاً‏.‏

وكنّي بانتفاء العلم بسميّه عن انتفاء وجود سميّ له، لأنّ العلم يستلزم وجود المعلوم، وإذا انتفى مماثله انتفى من يستحق العبادة غيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 67‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ‏(‏66‏)‏ أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ‏(‏67‏)‏‏}‏

لما تضمن قوله ‏{‏فاعبده واصطبر لعبادته‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 65‏]‏ إبطالَ عقيدة الإشراك به ناسب الانتقالُ إلى إبطال أثر من آثار الشرك‏.‏ وهو نفي المشركين وقوع البعث بعد الموت حتى يتمّ انتقاض أصلي الكفر‏.‏ فالواو عاطفة قصة على قصة، والإتيان بفعل ‏{‏يَقول‏}‏ مضارعاً لاستحضار حالة هذا القول للتعجيب من قائله تعجيب إنكار‏.‏

والمراد بالإنسان جَمع من الناس بقرينة قوله بعده ‏{‏فوربك لنحشرنهم‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 68‏]‏، فيراد من كانت هاته مقالتَه وهم معظم المخاطبين بالقرآن في أوّل نزوله‏.‏ ويجوز أن يكون وصفٌ حُذف، أي الإنسان الكافر، كما حذف الوصفُ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأخذ كل سفينة غصباً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 79‏]‏، أي كلّ سفينة صالحة، فتكون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه‏}‏ ‏[‏القيامى‏:‏ 3، 4‏]‏‏.‏ وكذلك إطلاق الناس على خصوص المشركين منهم في آيات كثيرة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 21‏]‏ إلى قوله ‏{‏فأتوا بسورة من مثله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 23‏]‏ فإن ذلك خطاب للمشركين‏.‏ وقيل تعريف ‏{‏الإنسان‏}‏ للعهد لإنسان معين‏.‏ فقيل، قائل هذا أُبَي بن خلف، وقيل‏:‏ الوليد بن المغيرة‏.‏

والاستفهام في ‏{‏أإذا ما متّ لسوف أخرج حياً‏}‏ إنكار لتحقيق وقوع البعث، فلذلك أتي بالجملة المسلّطِ عليها الإنكار مقترنةً بلام الابتداء الدالة على توكيد الجملة الواقعة هي فيها، أي يقول لا يكون ما حققتموه من إحيائي في المستقبل‏.‏

ومتعلق ‏{‏أُخرَجُ‏}‏ محذوف أي أُخرج من القبر‏.‏

وقد دخلت لام الابتداء في قوله ‏{‏لسَوفَ أُخرَجُ حيّاً‏}‏ على المضارع المستقبل بصريح وجود حرف الاستقبال، وذلك حجّة لقول ابن مالك بأن لام الابتداء تدخل على المضارع المراد به الاستقبال ولا تخلصه للحال‏.‏ ويظهر أنه مع القرينة الصريحة لا ينبغي الاختلاف في عدم تخليصها المضارع للحال، وإن صمّم الزمخشري على منعه، وتأول ما هنا بأنّ اللام مزيدة للتوكيد وليست لام الابتداء، وتأوله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولسوف يعطيك ربك فترضى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 5‏]‏ بتقدير مبتدأ محذوف، أي ولأنت سوف يعطيك ربّك فترضى، فلا تكون اللام داخلة على المضارع، وكلّ ذلك تكلّف لا مُلجئ إليه‏.‏

وجملة ‏{‏أو لا يذكر الإنسان‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏يقول الإنسان‏}‏، أي يقول ذلك ومن النكير عليه أنّه لا يتذكّر أنا خلقناه من قبل وجوده‏.‏

والاستفهام إنكار وتعجيب من ذهول الإنسان المنكر البعث عن خلقه الأول‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏أو لا يذْكُر بسكون الذال وضمّ الكاف من الذُكر بضم الذال‏.‏ وقرأه أبو جعفر بفتح الذال وتشديد الكاف على أن أصله يتَذكر فقلبت التاء الثانية ذالاً لقرب مخرجيهما‏.‏

والشيء‏:‏ هو الموجود، أي إنا خلقناه ولم يك موجوداً‏.‏

و ‏(‏قَبْلُ‏)‏ من الأسماء الملازمة للإضافة‏.‏ ولما حذف المضاف إليه واعتبر مضافاً إليه مجملاً ولم يراع له لفظ مخصوص تقدّم ذكره بنيت ‏(‏قبلُ‏)‏ على الضمّ، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لله الأمر من قبل ومن بعد‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 40‏]‏‏.‏

والتقدير‏:‏ إنا خلقناه من قبل كلّ حالة هو عليها، والتقدير في آية سورة الروم‏:‏ لله الأمر من قبللِ كل حَدث ومِن بعده‏.‏

والمعنى‏:‏ الإنكار على الكافرين أن يقولوا ذلك ولا يتذكروا حال النشأة الأولى فإنها أعجب عند الذين يَجرون في مداركهم على أحكام العادة، فإن الإيجاد عن عدم من غير سبق مثال أعجبُ وأدعى إلى الاستبعاد من إعادة موجودات كانت لها أمثلة‏.‏ ولكنها فسدت هياكلها وتغيرت تراكيبها‏.‏ وهذا قياس على الشاهد وإن كان القادر سواءً عليه الأمران‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 70‏]‏

‏{‏فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ‏(‏68‏)‏ ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ‏(‏69‏)‏ ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا ‏(‏70‏)‏‏}‏

الفاء تفريع على جملة ‏{‏أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 67‏]‏، باعتبار ما تضمنته من التهديد‏.‏ وواو القسم لتحقيق الوعيد‏.‏ والقسم بالرب مضافاً إلى ضمير المخاطب وهو النبي صلى الله عليه وسلم إدماج لتشريف قدره‏.‏

وضمير ‏{‏لنحشرنهم‏}‏ عائد إلى ‏{‏الإنسان‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 66‏]‏ المراد به الجنس المفيد للاستغراق العرفي كما تقدم، أي لنحشرن المشركين‏.‏

وعطف ‏(‏الشياطين‏)‏ على ضمير المشركين لقصد تحقيرهم بأنهم يحشرون مع أحقر جنس وأفسده، وللإشارة إلى أن الشياطين هم سبب ضلالهم الموجب لهم هذه الحالة، فحشرهم مع الشياطين إنذار لهم بأن مصيرهم هو مصير الشياطين وهو محقق عندالناس كلهم‏.‏ فلذلك عطف عليه جملة ‏{‏ثم لنُحضِرنّهم حول جهنّم جثيّاً‏}‏، والضميرُ للجميع‏.‏ وهذا إعداد آخر للتقريب من العذاب فهو إنذار على إنذار وتدرج في إلقاء الرّعب في قلوبهم‏.‏ فحرف ‏{‏ثم للترتيب الرتبي لا للمهلة إذ ليست المهلة مقصودة وإنما المقصود أنهم ينقلون من حالة عذاب إلى أشد‏.‏

و جثيّاً‏}‏ حال من ضمير ‏{‏لنحضرنهم‏}‏، والجُثيّ‏:‏ جمع جَاثثٍ‏.‏ ووزنه فُعول مثل‏:‏ قاعد وقُعود وجالس وجُلوس، وهو وزن سماعيّ في جمع فاعل‏.‏ وتقدّم نظيره ‏{‏خروا سجداً وبكياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 58‏]‏، فأصل جُثي جُثُور بواوَين لأن فعله واوي، يقال‏:‏ جثا يَجثو إذا بَرك على ركبتيه وهي هيئة الخاضع الذليل، فلمّا اجتمع في جثووٌ واوان استثقلا بعد ضمّة الثاء فصير إلى تخفيفه بإزالة سبب الثقل السابق وهو الضمة فعوضت بكسر الثاء، فلمّا كسرت الثاء تعين قلب الواو الموالية لها ياءً للمناسبة فاجتمع الواو والياء وسبق أحدهما بالسكون فقلبت الواو الأخرى ياء وأدغمتا فصار جثي‏.‏

وقرى حمزة، والكسائي، وحفص، وخلف بكسر الجيم وهو كسر إتباع لحركة الثاء‏.‏

وهذا الجثو هو غير جثوّ الناس في الحشر المحكيّ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 28‏]‏ فإن ذلك جثوّ خضوع لله، وهذا الجثوّ حول جهنّم جثوّ مذلّة‏.‏

والقول في عطف جملة ‏{‏ثمّ لننزعنّ من كلّ شيعة‏}‏ كالقول في جملة ‏{‏ثمّ لنحضرنهم‏}‏‏.‏ وهذه حالة أخرى من الرّعب أشدّ من اللتين قبلها وهي حالة تمييزهم للإلقاء في دركات الجحيم على حسب مراتب غلوّهم في الكفر‏.‏

والنزع‏:‏ إخراج شيء من غيره، ومنه نزع الماء من البئر‏.‏

والشيعة‏:‏ الطائفة التي شاعت أحداً، أي اتّبعته، فهي على رأي واحد‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين‏}‏ في سورة الحِجر ‏(‏10‏)‏‏.‏ والمراد هنا شيع أهل الكفر، أي من كلّ شيعة منهم‏.‏ أي ممن أحضرناهم حول جهنّم‏.‏

والعُتِيّ‏:‏ العصيان والتجبّر، فهو مصدر بوزن فُعول مثل‏:‏ خروج وجلوس، فقلبت الواو ياء‏.‏ وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص، وخلف بكسر العين إتباعاً لحركة التاء كما تقدّم في جثياً‏.‏

والمعنى‏:‏ لنميزنّ من كلّ فرقة تجمعها محلة خاصة من دين الضلال من هو من تلك الشيعة أشدّ عصياناً لله وتجبّراً عليه‏.‏

وهذا تهديد لعظماء المشركين مثل أبي جهل وأميّة بن خلف ونظرائهم‏.‏

و ‏(‏أيّ‏)‏ اسم موصول بمعنى ‏(‏ما‏)‏ و‏(‏من‏)‏‏.‏ والغالب أن يحذف صدر صلتها فتبنى على الضم‏.‏ وأصل التركيب‏:‏ أيّهم هو أشدّ عتياً على الرحمان‏.‏ وذكر صفة الرحمان هنا لتفظيع عتوّهم، لأنّ شديد الرّحمة بالخلق حقيق بالشكر له والإحسان لا بالكفر به والطغيان‏.‏

ولمّا كان هذا النّزع والتمييز مجملاً، فقد يزعم كل فريق أن غيره أشدّ عصياناً، أعلم الله تعالى أنّه يعلم من هو أولى منهم بمقدار صُلي النّار فإنّها دركات متفاوتة‏.‏

والصُلْيُ‏:‏ مصدر صَلِيَ النار كرضي، وهو مصدر سماعي بوزن فعول‏.‏ وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص، وخلف بكسر الصاد اتباعاً لحركة اللاّم، كما تقدم في جثيّاً‏.‏

وحرفا الجر يتعلقان بأفعلي التفضيل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 72‏]‏

‏{‏وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ‏(‏71‏)‏ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ‏(‏72‏)‏‏}‏

لمّا ذكر انتزاع الذين هم أولى بالنّار من بقية طوائف الكفر عطف عليه أنّ جميع طوائف الشرك يدخلون النار، دفعاً لتوهم أنّ انتزاع من هو أشد على الرحمان عتياً هو قصارى ما ينال تلك الطوائف من العذاب؛ بأن يحسبوا أنّ كبراءهم يكونون فداء لهم من النّار أو نحو ذلك، أي وذلك الانتزاع لا يصرف بقية الشيع عن النّار فإن الله أوجب على جميعهم النّار‏.‏

وهذه الجملة معترضة بين جملة ‏{‏فوربك لنحشرنهم‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 68‏]‏ الخ وجملة ‏{‏وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 73‏]‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏

فالخطاب في ‏{‏وإن منكم‏}‏ التفات عن الغيبة في قوله ‏{‏لنحشرنّهم ولنحضرنّهم‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 68‏]‏؛ عدل عن الغيبة إلى الخطاب ارتقاء في المواجهة بالتهديد حتى لا يبقى مجال للالتباس المراد من ضمير الغيبة فإن ضمير الخطاب أعرَف من ضمير الغيبة‏.‏ ومقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ وإن منهم إلا واردها‏.‏ وعن ابن عبّاس أنّه كان يقرأ ‏{‏وإن منهم‏.‏ وكذلك قرأ عِكرمة وجماعة‏.‏

فالمعنى‏:‏ وما منكم أحد ممن نُزع من كلّ شيعة وغيرِه إلاّ واردُ جهنّم حتماً قضاه الله فلا مبدل لكلماته، أي فلا تحسبوا أن تنفعكم شفاعتهم أو تمنعكم عزّة شِيعكم، أو تُلقون التبعة على سادتكم وعظماء أهل ضلالكم، أو يكونون فداء عنكم من النّار‏.‏ وهذا نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 42، 43‏]‏، أي الغاوين وغيرهم‏.‏

وحرف ‏(‏إنْ‏)‏ للنفي‏.‏

والورود‏:‏ حقيقته الوصول إلى الماء للاستقاء‏.‏ ويطلق على الوصول مطلقاً مجازاً شائعاً، وأما إطلاق الورود على الدخول فلا يُعرف إلا أن يكون مجازاً غير مشهور فلا بد له من قرينة‏.‏

وجملة ‏{‏ثمّ ننجي الذين اتّقوا‏}‏ زيادة في الارتقاء بالوعيد بأنّهم خالدون في العذاب، فليس ورودهم النّار بموقّت بأجل‏.‏

و ‏{‏ثمّ‏}‏ للترتيب الرتبي تنويهاً بإنجاء الذين اتّقوا وتشويهاً بحال الذين يبقون في جهنم جُثيّاً‏.‏ فالمعنى‏:‏ وعلاوة على ذلك ننجي الذين اتّقوا من ورود جهنم‏.‏ وليس المعنى‏:‏ ثمّ ينجي المتقين من بينهم بل المعنى أنهم نَجَوْا من الورود إلى النّار‏.‏ وذكر إنجاء المتقين‏:‏ أي المؤمنين، إدماج ببشارة المؤمنين في أثناء وعيد المشركين‏.‏

وجملة ‏{‏ونذر الظالمين فيها جثياً‏}‏ عطف على جملة ‏{‏وإن منكم إلاّ واردها‏}‏‏.‏ والظالمون‏:‏ المشركون‏.‏

والتعبير بالّذين ظلموا إظهار في مقام الإضمار‏.‏ والأصل‏:‏ ونذركم أيها الظالمون‏.‏

ونذر‏:‏ نترك، وهو مضارع ليس له ماض من لفظه، أمات العرب ماضي ‏(‏نذر‏)‏ استغناء عنه بماضي ‏(‏ترك‏)‏، كما تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم ذرهم في خوضهم يلعبون‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏91‏)‏‏.‏

فليس الخطاب في قوله وإن منكم إلاّ واردها‏}‏ لجميع النّاس مؤمنهم وكافِرِهم على معنى ابتداء كلام؛ بحيث يقتضي أن المؤمنين يردون النّار مع الكافرين ثم يُنْجوَن من عذابها، لأنّ هذا معنى ثقيل ينبو عنه السياق، إذ لا مناسبة بينه وبين سياق الآيات السابقة، ولأنّ فضل الله على المؤمنين بالجنّة وتشريفهم بالمنازل الرفيعة ينافي أن يسوقهم مع المشركين مَساقاً واحداً، كيف وقد صُدّر الكلام بقوله

‏{‏فوربك لنحشرنهم والشياطين‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 68‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم نحشر المتقين إلى الرحمان وفداً ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 85، 86‏]‏، وهو صريح في اختلاف حشر الفريقين‏.‏

فموقع هذه الآية هنا كموقع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن جهنم لموعدهم أجمعين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 43‏]‏ عقب قوله ‏{‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 42‏]‏‏.‏ فلا يتوهم أن جهنّم موعد عباد الله المخلصين مع تقدّم ذكره لأنّه ينبو عنه مقام الثناء‏.‏

وهذه الآية مثار إشكال ومحطّ قيل وقال؛ واتفق جميع المفسرين على أن المتّقين لا تنالهم نار جهنّم، واختلفوا في محل الآية فمنهم من جعل ضمير ‏{‏منكُم‏}‏ لجميع المخاطبين بالقرآن، ورووه عن بعض السلف فصدمَهم فساد المعنى ومنافاة حكمة الله والأدلّة الدالة على سلامة المؤمنين يومئذ من لقاء أدنى عذاب، فسلكوا مسالك من التّأويل، فمنهم من تأوّل الورود بالمرور المجرد دون أن يمس المؤمنين أذى، وهذا بُعد عن الاستعمال، فإن الورود إنما يراد به حصول ما هو مودع في المَورد لأنّ أصله من وُرود الحوض‏.‏ وفي آي القرآن ما جاء إلاّ لمعنى المصير إلى النّار كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98، 99‏]‏ وقوله ‏{‏يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 98‏]‏ وقوله ‏{‏ونسوق المجرمين إلى جهنم وِرداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 86‏]‏‏.‏ على أن إيراد المؤمنين إلى النّار لا جدوى له فيكون عبثاً، ولا اعتداد بما ذكره له الفخر ممّا سمّاه فوائد‏.‏

ومنهم من تأوّل ورود جهنّم بمرورالصراط، وهو جسر على جهنّم، فساقوا الأخبار المروية في مرور الناس على الصراط متفاوتين في سُرعة الاجتياز‏.‏ وهذا أقل بُعداً من الذي قبله‏.‏

وروى الطبري وابن كثير في هذين المحملين أحاديث لا تخرج عن مرتبة الضعف مما رواه أحمد في «مسنده» والحكيمُ التّرمذي في «نوادر الأصول»‏.‏ وأصح ما في الباب ما رواه أبو عيسى الترمذي قال‏:‏ «يرد النّاس النّار ثمّ يصدرون عنها بأعمالهم» الحديث في مرور الصراط‏.‏

ومن النّاس من لفق تعضيداً لذلك بالحديث الصحيح‏:‏ أنه «لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النّار إلاّ تَحلة القسم» فتأول تحلة القسم بأنها ما في هذه الآية من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن منكم إلاَّ واردها‏}‏ وهذا محمل باطل، إذ ليس في هذه الآية قسم يتحلل، وإنّما معنى الحديث‏:‏ إن من استحق عذاباً من المؤمنين لأجل معاص فإذا كان قد مات له ثلاثة من الولد كانوا كفارة له فلا يلج النّار إلاّ ولوجاً قليلاً يشبه ما يفعل لأجل تحلة القسم، أي التحلل منه‏.‏ وذلك أن المقسم على شيء إذا صعب عليه بر قسمه أخذ بأقل ما يتحقق فيه ما حلف عليه، فقوله «تحلة القسم» تمثيل‏.‏

ويروى عن بعض السلف روايات أنّهم تخوفوا من ظاهر هذه الآية، من ذلك ما نقل عن عبد الله بن رواحة، وعن الحسن البصري، وهو من الوقوف في موقف الخوف من شيء محتمل‏.‏

وذكر فعل ‏{‏نَذَرُ‏}‏ هنا دون غيره للإشعار بالتحقير، أي نتركهم في النار لا نعبأ بهم، لأن في فعل الترك معنى الإهمال‏.‏

والحتم‏:‏ أصله مصدر حتمه إذ جعله لازماً، وهو هنا بمعنى المفعول، أي محتوماً على الكافرين، والمقضي‏:‏ المحكوم به‏.‏ وجُثِيّ تقدم‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ثمّ تنَجِّي‏}‏ بِفَتح النون الثانية وتشديد الجيم، وقرأه الكسائي بسكون النون الثانية وتخفيف الجيم‏.‏